بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
كان بموته قد دفع ثمن الخطية, واشترانا بدمه, لذلك كان من حقه وقد فدي البشرية, أن ينقل الراقدين من الجحيم إلي الفردوس, وقد كان.
بروحه المتحدة باللاهوت, ذهب إلي الجحيم, ليبشر الراقدين هناك علي رجاء.
لقد نزل إلي أقسام الأرض السفلي, وسبي سبيا (أف4: 8, 9). وفتح باب الفردوس, ونقل إليه الأبرار المنتظرين في الجحيم, وأدخل معهم في الفردوس اللص اليمين أيضا.
حقا ما أصدق قوله للقديس يوحنا الرائي: إن بيده مفاتيح الهاوية والموت (رؤ1:18). وإن كان قد فتح باب الفردوس.. فهو كما قال أيضا: أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم (رؤ 17:8) (في 4: 3).
حقا طوبي لهؤلاء الذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة. إذ لا سلطان للموت عليهم.
قد يقيمون فيه حينا. كما أقام يونان في بطن الحوت, ثم أخرجه الرب بسلام, دون أن يكون للحوت سلطان علي أذيته..!
هكذا أخرج الرب الذين في الجحيم, وبسلطانه علي الفردوس أدخلهم إليه.
وهذا العمل العظيم عمله الرب في الخفاء. وتهللت له السماء. وتحققت به أقوال الأنبياء. وفي الخفاء قام من بين الأموات.
أتت روحه المتحدة بلاهوته, واتحدت بجسده المتحد بلاهوته. وقام بقوة لاهوته, وخرج من القبر المغلق.
النسوة حاملات الطيب
عجيب أن النسوة أخذن أطيابا وذهبن إلي القبر, بينما هذه الأطياب كانت لا تتفق مع الإيمان بالقيامة. ولكن الرب اهتم بما عندهن من حب, وعالج النقص الموجود في إيمانهن.
هل يحملن الطيب لأجل الجسد الذي في القبر؟! أليس لهن الإيمان أن المسيح قد ترك القبر وقام؟! ولذلك فإن بشارة الملاك كانت تحمل هذا العتاب الضمني, حينما قال للمريمتين: إني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب, ليس هو ههنا, لأنه قام كما قال (متي 28: 5, 6).
ونفس التوبيخ بأسلوب أوضح قاله الملاكان للنسوة حاملات الطيب:
لماذا تطلين الحي بين الأموات؟! ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل قائلا: إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة, ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم فتذكرن كلامه (لو24: 5- 8).
نعم إنه سبق وقال إنه سيقوم من بين الأموات. ولم يقل هذا للنسوة فقط, بل بالأكثر للتلاميذ.
فإن كان التلاميذ قد أنبأهم الرب بقيامته ولم يؤمنوا, فكم بالأولي هؤلاء النسوة؟!
شكوك التلاميذ
قيامة المسيح كانت حادثا هو الأول من نوعه, من حيث إنه يقوم بذاته, دون أن يقيمه أحد.. ومن حيث تحقيقه بقوله العجيب الذي لم يقله أحد:
أضع نفسي لآخذها أيضا. ليس أحد يأخذها مني, بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها. ولي سلطان أن آخذها أيضا (يو10: 17, 18).
من جرؤ أن يقول هذا الكلام غير المسيح؟ لذلك كانت قيامة مذهلة. كانت فوق الفكر, وبخاصة بعد أحداث الصليب وآلامه وإهاناته.. وبعدما أظهره اليهود من جبروت وتسلط! ولهذا لم يكن سهلا علي التلاميذ أن يصدقوها, وهم خائفون ومختبئون في العلية.
كان علي الصليب قال: قد أكمل, أي أكمل عمل الفداء, ودفع ثمن الخطية, إلا أنه كان أمامه بعد القيامة عمل آخر ليكمله, عمل خاص بالرعاية..
كانت أمامه نفوس بارة, ولكنها مضطربة, تحتاج إلي راحة النفوس التي ضعفت وخافت وشكت, ماذا يفعل لأجلها؟
إنه لم يشأ مطلقا أن يعاتب هذه النفوس علي ضعفها, أو علي شكلها أو نكرانها, بل جاء ليريحها..
إنه -كما قال قبلا- لم يأت ليدين العالم, بل ليخلص العالم.. فكم بالأولي خاصته الذين أحبهم حتي المنتهي (يو13).
وقال القديس يوحنا عن ذلك الحب: نحن نحبه, لأنه أحبنا قبلا (1يو4: 19).
هكذا فعل مع توما الذي شك في قيامته, وأصر أن يضع أصبعه مكان الجروح. لم يعاتبه علي الشك, وإنما عالجه فيه.
واستجاب له في وضع أصبعه والتأكد من جروحه..
ونفس الوضع مع بطرس, ومع المجدلية, ومع تلميذي عمواس.
لقد أراد الرب تقوية إيمان هؤلاء, الذين سيجعلهم يحملون الإيمان إلي أقاصي المسكونة كلها.. وقد كان.
وهكذا لم يقتصر الأمر علي قيامته, إنما تبعت القيامة عدة ظهورات, بل مكث مع التلاميذ أربعين يوما, في خلالها أراهم نفسه حيا ببراهين كثيرة بعدما تألم (أع1: 3).
فماذا قال الكتاب عن عدم تصديق التلاميذ للقيامة, وعن تكرار هذا الشك منهم, مما أعثر غيرهم؟
1- يقول الإنجيل المقدس إنه ظهر أولا لمريم المجدلية.. فذهبت هذه وأخبرت الذين معه وهم ينوحون ويبكون. فكيف تلقوا بشارتها بالقيامة؟ يجيب القديس مرقس الإنجيلي قائلا:
فلما سمع أولئك أنه حي, وقد نظرته, لم يصدقوا (مر16: 9- 11).
2- ثم ظهر الرب لتلميذي عمواس, فلم يعرفاه, وماكانا قد صدقا ما قالته النسوة عن القيامة.. حتي أن السيد المسيح وبخهما قائلا: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلي مجده. ثم ابتدأ من موسي ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو24: 25- 27).
3- وأخيرا آمن هذان التلميذان. فماذا كان وقع إيمانهما علي الرسل؟ يقول القديس مرقس:
وذهب هذان وأخبرا الباقين. فلم يصدقوا ولا هذين (مر16: 13).
4- نسمع بعد ذلك أن النسوة ذهبن إلي القبر فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وظهر لهن ملاكان, وبشراهن بالقيامة. فذهبن وأخبرن التلاميذ. فماذا كان وقع هذه البشارة عليهم؟ يقول القديس لوقا الإنجيلي في ذلك: فتراءي كلامهن لهم كالهذيان, ولم يصدقوهن (لو24: 11).
هؤلاء هم الأحد عشر رسولا أعمدة الكنيسة. كثرت أمامهم الشهادات: من مريم المجدلية, ومن تلميذي عمواس, ومن النسوة.. فلم يصدقوا كل هؤلاء.
5- فما الذي حدث بعد ذلك: ذهبت مريم المجدلية وأخبرت بطرس ويوحنا عن القبر الفارغ فذهبا معها إلي هناك وأبصرا الأكفان موضوعة, والمنديل الذي كان علي رأسه ليس موضوعا مع الأكفان, بل ملفوفا في موضع وحده (يو20: 6, 7).
هنا يقول الإنجيل عن يوحنا إنه: رأي فآمن (يو20: 8). ولكننا علي الرغم من هذا نقرأ شيئا عجيبا..
6- نقرأ بعد أن عرف الكل أن: الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان (لو24: 34).. حدث أن الرب نفسه قام في وسطهم وقال لهم سلاما لكم.
فهل آمنوا لما ظهر وكلمهم؟ كلا بل إنهم جزعوا وخافوا, وظنوا أنهم نظروا روحا (لو24: 37).
حتي إن الرب وبخهم علي ذلك. ثم قال لهم: انظروا يدي ورجلي إني أنا هو. جسوني وانظروا. فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي (لو24: 39).
حقا أية بدعة كانت تحدث في الإيمان, لو أن التلاميذ ظنوا أن ما رأوه كان روحا! كان الجسد لم يقم.. لذلك أراهم الرب يديه ورجليه.
7- إذن المشكلة لم تكن مشكلة توما الرسول فقط, الذي قال له الرب: أبصر يدي. وهات يدك وضعها في جنبي, ولا تكن غير مؤمن (يو20: 27).
إنما كانت مشكلة الأحد عشر جميعهم. كلهم شكوا. وكلهم احتاجوا إلي براهين, واحتاجوا أن يجسوا ويلموسوا ويروا موضع الجروح لكي يؤمنوا..!
وعالج الرب عمليا مشكلة أن يظنوا ظهوره لهم خيالا أو روحا. وفي ذلك قال القديس بطرس السدمنتي:
إن السيد المسيح في فترة حياته بالجسد علي الأرض كان يثبت للناس لاهوته. أما بعد القيامة, فأراد أن يثبت لهم ناسوته..!
الرب يثبت ناسوته
لذلك نسمع أنه بعد القيامة, سمح من أجل إقناعهم بناسوته أخذ وأكل قدامهم (لو24: 43). فعل هذا بينما نحن نعلم أن جسد القيامة هو جسد روحاني نوراني لا يأكل ولا يشرب. إنما فعل الرب هذا ليقنعهم بناسوته. أما جسده بعد الصعود, فهو لا علاقة له بهذا الأكل من طعام مادي..
نلاحظ في كل هذا, أن شكوك التلاميذ قابلها الرب بالإقناع وليس بالتوبيخ أو بالعقاب.
إنهم هم الذين سيأتمنهم علي نشر الإيمان في العالم كله. فينبغي أن يكونوا هم أنفسهم مؤمنين إيمانا قويا راسخا يمكن أن يوصلوه إلي الآخرين مقنعا لا يقبل الشك. فأوصلهم الرب إلي هذا الإيمان القوي.
إن كانوا لم يصلوا إلي الإيمان الذي يؤمن دون أن يري, فلا مانع من أن يبدأو بالإيمان المعتمد علي الحواس. مع أنه درجة ضعيفة!
تنازل الرب, وقبل منهم هذا الإيمان الحسي, لا لكي يثبتوا فيه, وإنما ليكونوا مجرد بداءة توصل إلي الإيمان الذي هو الإيقان بأمور لا تري (عب11: 1). وهكذا قال القديس يوحنا:
الذي سمعناه, الذي رأيناه بعيوننا, الذي شاهدناه ولمسته أيدينا (1يو 1: 1)..
وهذا الإيمان الذي اعتمد في بداءته علي الحواس, ما لبث أن اشتد وقوي واستطاع أن يقنع الأرض كلها بما رآه وسمعه, لئلا يظن البعض أن الرسل كانوا مخدوعين, أو صدقوا أمورا لم تحدث.
وهكذا رأينا القديس بولس يبشر فيما بعد بما رآه وما سمعه وهو في طريق دمشق..
وشرح هذا الموضوع كله للملك أغريباس, وشرح له ما رآه قائلا: رأيت في نصف النهار في الطريق أيها الملك نورا من السماء أفضل من لمعان الشمس.. وسمعت صوتا يكلمني.. (أع 26: 13- 15). وختم ذلك بقوله: من ثم أيها الملك أغريباس, لم أكد معاندا للرؤية السماوية.
هذا هو السيد المسيح الذي عمل علي تقوية إيمان تلاميذه, والذي عالج شك توما, وعزي بطرس في حزنه, وعزي المجدلية في بكائها, وأعاد الإيمان إلي الكنيسة.
وكأني أتصور ملاكا واقفا علي قبره قبيل القيامة ينشد قائلا:
قم حطم الشيطان لا
تبق لدولته بقية
قم بشر الموتي وقل
غفرت لكم تلك الخطية
قم قو إيمان الرعاة
ولم أشتات الرعية
واغفر لبطرس ضعفه
وامسح دموع المجدلية
واكشف جراحك مقنعا
توما فريبته قوية
إن السيد المسيح له المجد لم يبطل العمل مطلقا من أجل البشرية, حتي وهو في القبر بالجسد.
يعمل بين الصلب والقيامة
إن الله في قيامته, قدس الطبيعة البشرية القابلة للموت, وجعلها قابلة للقيامة..
وقبل القيامة, كان الرب يعمل من أجلنا أيضا, حتي حينما كان جسده في القبر..
بالموت انفصلت روحه عن جسده ولكن لاهوته لم ينفصل قط لا عن روحه ولا عن جسده. واستطاعت روحه المتحدة بلاهوته أن تعمل عملا خلاصيا عجيبا من أجل الراقدين علي رجاء.
يعمل بين الصلب والقيامة
إن الله في قيامته, قدس الطبيعة البشرية القابلة للموت, وجعلها قابلة للقيامة..
وقبل القيامة, كان الرب يعمل من أجلنا أيضا, حتي حينما كان جسده في القبر..
بالموت انفصلت روحه عن جسده ولكن لاهوته لم ينفصل قط لا عن روحه ولا عن جسده. واستطاعت روحه المتحدة بلاهوته أن تعمل عملا خلاصيا عجيبا من أجل الراقدين علي رجاء.
كان بموته قد دفع ثمن الخطية, واشترانا بدمه, لذلك كان من حقه وقد فدي البشرية, أن ينقل الراقدين من الجحيم إلي الفردوس, وقد كان.
بروحه المتحدة باللاهوت, ذهب إلي الجحيم, ليبشر الراقدين هناك علي رجاء.
لقد نزل إلي أقسام الأرض السفلي, وسبي سبيا (أف4: 8, 9). وفتح باب الفردوس, ونقل إليه الأبرار المنتظرين في الجحيم, وأدخل معهم في الفردوس اللص اليمين أيضا.
حقا ما أصدق قوله للقديس يوحنا الرائي: إن بيده مفاتيح الهاوية والموت (رؤ1:18). وإن كان قد فتح باب الفردوس.. فهو كما قال أيضا: أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم (رؤ 17:8) (في 4: 3).
حقا طوبي لهؤلاء الذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة. إذ لا سلطان للموت عليهم.
قد يقيمون فيه حينا. كما أقام يونان في بطن الحوت, ثم أخرجه الرب بسلام, دون أن يكون للحوت سلطان علي أذيته..!
هكذا أخرج الرب الذين في الجحيم, وبسلطانه علي الفردوس أدخلهم إليه.
وهذا العمل العظيم عمله الرب في الخفاء. وتهللت له السماء. وتحققت به أقوال الأنبياء. وفي الخفاء قام من بين الأموات.
أتت روحه المتحدة بلاهوته, واتحدت بجسده المتحد بلاهوته. وقام بقوة لاهوته, وخرج من القبر المغلق.
النسوة حاملات الطيب
عجيب أن النسوة أخذن أطيابا وذهبن إلي القبر, بينما هذه الأطياب كانت لا تتفق مع الإيمان بالقيامة. ولكن الرب اهتم بما عندهن من حب, وعالج النقص الموجود في إيمانهن.
هل يحملن الطيب لأجل الجسد الذي في القبر؟! أليس لهن الإيمان أن المسيح قد ترك القبر وقام؟! ولذلك فإن بشارة الملاك كانت تحمل هذا العتاب الضمني, حينما قال للمريمتين: إني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب, ليس هو ههنا, لأنه قام كما قال (متي 28: 5, 6).
ونفس التوبيخ بأسلوب أوضح قاله الملاكان للنسوة حاملات الطيب:
لماذا تطلين الحي بين الأموات؟! ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل قائلا: إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة, ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم فتذكرن كلامه (لو24: 5- 8).
نعم إنه سبق وقال إنه سيقوم من بين الأموات. ولم يقل هذا للنسوة فقط, بل بالأكثر للتلاميذ.
فإن كان التلاميذ قد أنبأهم الرب بقيامته ولم يؤمنوا, فكم بالأولي هؤلاء النسوة؟!
شكوك التلاميذ
قيامة المسيح كانت حادثا هو الأول من نوعه, من حيث إنه يقوم بذاته, دون أن يقيمه أحد.. ومن حيث تحقيقه بقوله العجيب الذي لم يقله أحد:
أضع نفسي لآخذها أيضا. ليس أحد يأخذها مني, بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها. ولي سلطان أن آخذها أيضا (يو10: 17, 18).
من جرؤ أن يقول هذا الكلام غير المسيح؟ لذلك كانت قيامة مذهلة. كانت فوق الفكر, وبخاصة بعد أحداث الصليب وآلامه وإهاناته.. وبعدما أظهره اليهود من جبروت وتسلط! ولهذا لم يكن سهلا علي التلاميذ أن يصدقوها, وهم خائفون ومختبئون في العلية.
كان علي الصليب قال: قد أكمل, أي أكمل عمل الفداء, ودفع ثمن الخطية, إلا أنه كان أمامه بعد القيامة عمل آخر ليكمله, عمل خاص بالرعاية..
كانت أمامه نفوس بارة, ولكنها مضطربة, تحتاج إلي راحة النفوس التي ضعفت وخافت وشكت, ماذا يفعل لأجلها؟
إنه لم يشأ مطلقا أن يعاتب هذه النفوس علي ضعفها, أو علي شكلها أو نكرانها, بل جاء ليريحها..
إنه -كما قال قبلا- لم يأت ليدين العالم, بل ليخلص العالم.. فكم بالأولي خاصته الذين أحبهم حتي المنتهي (يو13).
وقال القديس يوحنا عن ذلك الحب: نحن نحبه, لأنه أحبنا قبلا (1يو4: 19).
هكذا فعل مع توما الذي شك في قيامته, وأصر أن يضع أصبعه مكان الجروح. لم يعاتبه علي الشك, وإنما عالجه فيه.
واستجاب له في وضع أصبعه والتأكد من جروحه..
ونفس الوضع مع بطرس, ومع المجدلية, ومع تلميذي عمواس.
لقد أراد الرب تقوية إيمان هؤلاء, الذين سيجعلهم يحملون الإيمان إلي أقاصي المسكونة كلها.. وقد كان.
وهكذا لم يقتصر الأمر علي قيامته, إنما تبعت القيامة عدة ظهورات, بل مكث مع التلاميذ أربعين يوما, في خلالها أراهم نفسه حيا ببراهين كثيرة بعدما تألم (أع1: 3).
فماذا قال الكتاب عن عدم تصديق التلاميذ للقيامة, وعن تكرار هذا الشك منهم, مما أعثر غيرهم؟
1- يقول الإنجيل المقدس إنه ظهر أولا لمريم المجدلية.. فذهبت هذه وأخبرت الذين معه وهم ينوحون ويبكون. فكيف تلقوا بشارتها بالقيامة؟ يجيب القديس مرقس الإنجيلي قائلا:
فلما سمع أولئك أنه حي, وقد نظرته, لم يصدقوا (مر16: 9- 11).
2- ثم ظهر الرب لتلميذي عمواس, فلم يعرفاه, وماكانا قد صدقا ما قالته النسوة عن القيامة.. حتي أن السيد المسيح وبخهما قائلا: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلي مجده. ثم ابتدأ من موسي ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو24: 25- 27).
3- وأخيرا آمن هذان التلميذان. فماذا كان وقع إيمانهما علي الرسل؟ يقول القديس مرقس:
وذهب هذان وأخبرا الباقين. فلم يصدقوا ولا هذين (مر16: 13).
4- نسمع بعد ذلك أن النسوة ذهبن إلي القبر فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وظهر لهن ملاكان, وبشراهن بالقيامة. فذهبن وأخبرن التلاميذ. فماذا كان وقع هذه البشارة عليهم؟ يقول القديس لوقا الإنجيلي في ذلك: فتراءي كلامهن لهم كالهذيان, ولم يصدقوهن (لو24: 11).
هؤلاء هم الأحد عشر رسولا أعمدة الكنيسة. كثرت أمامهم الشهادات: من مريم المجدلية, ومن تلميذي عمواس, ومن النسوة.. فلم يصدقوا كل هؤلاء.
5- فما الذي حدث بعد ذلك: ذهبت مريم المجدلية وأخبرت بطرس ويوحنا عن القبر الفارغ فذهبا معها إلي هناك وأبصرا الأكفان موضوعة, والمنديل الذي كان علي رأسه ليس موضوعا مع الأكفان, بل ملفوفا في موضع وحده (يو20: 6, 7).
هنا يقول الإنجيل عن يوحنا إنه: رأي فآمن (يو20: 8). ولكننا علي الرغم من هذا نقرأ شيئا عجيبا..
6- نقرأ بعد أن عرف الكل أن: الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان (لو24: 34).. حدث أن الرب نفسه قام في وسطهم وقال لهم سلاما لكم.
فهل آمنوا لما ظهر وكلمهم؟ كلا بل إنهم جزعوا وخافوا, وظنوا أنهم نظروا روحا (لو24: 37).
حتي إن الرب وبخهم علي ذلك. ثم قال لهم: انظروا يدي ورجلي إني أنا هو. جسوني وانظروا. فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي (لو24: 39).
حقا أية بدعة كانت تحدث في الإيمان, لو أن التلاميذ ظنوا أن ما رأوه كان روحا! كان الجسد لم يقم.. لذلك أراهم الرب يديه ورجليه.
7- إذن المشكلة لم تكن مشكلة توما الرسول فقط, الذي قال له الرب: أبصر يدي. وهات يدك وضعها في جنبي, ولا تكن غير مؤمن (يو20: 27).
إنما كانت مشكلة الأحد عشر جميعهم. كلهم شكوا. وكلهم احتاجوا إلي براهين, واحتاجوا أن يجسوا ويلموسوا ويروا موضع الجروح لكي يؤمنوا..!
وعالج الرب عمليا مشكلة أن يظنوا ظهوره لهم خيالا أو روحا. وفي ذلك قال القديس بطرس السدمنتي:
إن السيد المسيح في فترة حياته بالجسد علي الأرض كان يثبت للناس لاهوته. أما بعد القيامة, فأراد أن يثبت لهم ناسوته..!
الرب يثبت ناسوته
لذلك نسمع أنه بعد القيامة, سمح من أجل إقناعهم بناسوته أخذ وأكل قدامهم (لو24: 43). فعل هذا بينما نحن نعلم أن جسد القيامة هو جسد روحاني نوراني لا يأكل ولا يشرب. إنما فعل الرب هذا ليقنعهم بناسوته. أما جسده بعد الصعود, فهو لا علاقة له بهذا الأكل من طعام مادي..
نلاحظ في كل هذا, أن شكوك التلاميذ قابلها الرب بالإقناع وليس بالتوبيخ أو بالعقاب.
إنهم هم الذين سيأتمنهم علي نشر الإيمان في العالم كله. فينبغي أن يكونوا هم أنفسهم مؤمنين إيمانا قويا راسخا يمكن أن يوصلوه إلي الآخرين مقنعا لا يقبل الشك. فأوصلهم الرب إلي هذا الإيمان القوي.
إن كانوا لم يصلوا إلي الإيمان الذي يؤمن دون أن يري, فلا مانع من أن يبدأو بالإيمان المعتمد علي الحواس. مع أنه درجة ضعيفة!
تنازل الرب, وقبل منهم هذا الإيمان الحسي, لا لكي يثبتوا فيه, وإنما ليكونوا مجرد بداءة توصل إلي الإيمان الذي هو الإيقان بأمور لا تري (عب11: 1). وهكذا قال القديس يوحنا:
الذي سمعناه, الذي رأيناه بعيوننا, الذي شاهدناه ولمسته أيدينا (1يو 1: 1)..
وهذا الإيمان الذي اعتمد في بداءته علي الحواس, ما لبث أن اشتد وقوي واستطاع أن يقنع الأرض كلها بما رآه وسمعه, لئلا يظن البعض أن الرسل كانوا مخدوعين, أو صدقوا أمورا لم تحدث.
وهكذا رأينا القديس بولس يبشر فيما بعد بما رآه وما سمعه وهو في طريق دمشق..
وشرح هذا الموضوع كله للملك أغريباس, وشرح له ما رآه قائلا: رأيت في نصف النهار في الطريق أيها الملك نورا من السماء أفضل من لمعان الشمس.. وسمعت صوتا يكلمني.. (أع 26: 13- 15). وختم ذلك بقوله: من ثم أيها الملك أغريباس, لم أكد معاندا للرؤية السماوية.
هذا هو السيد المسيح الذي عمل علي تقوية إيمان تلاميذه, والذي عالج شك توما, وعزي بطرس في حزنه, وعزي المجدلية في بكائها, وأعاد الإيمان إلي الكنيسة.
وكأني أتصور ملاكا واقفا علي قبره قبيل القيامة ينشد قائلا:
قم حطم الشيطان لا
تبق لدولته بقية
قم بشر الموتي وقل
غفرت لكم تلك الخطية
قم قو إيمان الرعاة
ولم أشتات الرعية
واغفر لبطرس ضعفه
وامسح دموع المجدلية
واكشف جراحك مقنعا
توما فريبته قوية
0 التعليقات:
إرسال تعليق