عادل حمودة يكتب:
5 مليارات دولار من السعودية لتمويل السلفيين في الانتخابات القادمة
- أمريكا تهدد بقطع المعونة العسكرية لو حصل الإخوان علي أغلبية في مجلس الشعب!
- القاهرة ترفض زيارة أمير قطر ولو جاء بمليارات الدولارات وواشنطن ستعترف بالإخوان لو جاءوا للحكم لكنها لن تتعامل معهم كما فعلت مع حماس وتري أن شعارات الناصريين أكبر منافس لهم في الانتخابات!
- الرياض غاضبة من حبس مبارك ومحاكمة عائلته والإمارات تعاقب المصريين علي تصريحات نبيل العربي بمد الجسور المحترقة مع إيران!
ليس من السهل مراقبة جنين يتكون.. أو مياه جوفية تتحرك.. أو ثورة شعبية تتشكل.
من يتصور ذلك يشبه سائق الدراجة الذي يتأمل قدميه.. فيرتبك.. ويفقد توازنه.. ويقع.
إن الثورة حركة بشرية يصعب رصد تفاعلاتها.. أو كشف مكوناتها.. أو توقع مستقبلها.. فهي مجاهيل مغلقة تمتلئ بمعادلات ومعوقات ومخلوقات لا نستطيع تحديد ماهيتها.. وطبيعتها.. وتحركاتها.. وتحولاتها.
لا أحد يمكنه أن يمسك بالبرق.. بل.. كل ما عليه أن يستفيد من الضوء الذي يلمع في الظلام.. ومن تجمع بروق الثورة تحدث الإنارة النفسية الشاملة.. ويبدأ العمل علي أرض واضحة.. ولو بعد طول معاناة.
لكن.. المشكلة أن من يصنع الثورة غير من يراقبها.. ومن نجح في التغيير غير من يرصده.. ومن يسعي للتجديد غير من يخشاه.
1
وصف مبارك موقف الولايات المتحدة منه بالخيانة السافرة.. فقد لحس الرئيس السابق أصابع قدميها.. وعطر سياستها بماء الورد.. لكنها في حساباته.. غدرت به.. وسهلت التخلص منه.
لقد انتصرت التيارات الشابة في إدارة باراك أوباما علي عناد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وتصلب شرايين وزير الدفاع روبرت جيتس.. وساندت الميديا الثورة المصرية.. ووضعت مجلة "تايم" وائل غنيم علي رأس قائمة المائة شخصية الأكثر تأثيرا في العالم.
علي أن واشنطن غير مشغولة الآن بما "حدث".. وإنما بما "سيحدث".. لا يهمها ما "كان".. وإنما ما" سيكون".. فالتاريخ بالنسبة إليها علم الأحداث الميتة.. والمستقبل علم رصف الطرق المفتوحة.
ولكنها.. حتي هذه اللحظة لم ترسُ علي بر.. ولم تستقر علي رأي.. ولم تعرف من هو حصان الرهان المضمون الذي سيصل في السباق الراهن إلي حكم مصر.. وهي لن تنتظر إلي أن يأتي.. وإنما عليها أن تتوقعه.. وتختبره.. وتخترعه إذا ما لزم الأمر.
2
وتزدحم فنادق القاهرة ومطاعمها ومقاهيها الآن بعشرات الصحفيين والدبلوماسيين والباحثين الأمريكيين بجانب عملاء لمخابراتهم المتنوعة.. جاءوا في مهمة عاجلة.. لا تحتمل التأخير.. المساعدة في رسم السياسة التي علي بلادهم اتباعها تجاه مصر بعد الثورة في الشهور القليلة القادمة.. الحاسمة.. ما هي القوي التي يساندونها؟.. وما هي التيارات التي يخشونها؟.. وما هي الجماعات التي يمكن التعامل معها؟
إن هذه السياسة لم تقرر بعد.. فلا يزالون في مرحلة جمع المعلومات.. ورصد الملاحظات.. ووضع التصورات.. لكنهم.. يشعرون أنهم في سباق مع الزمن.. فالانتخابات البرلمانية علي الأبواب.. والفائز فيها سيشكل لجنة وضع الدستور الجديد.. ويحدد المستقبل السياسي للبلاد لوقت بعيد.
وهم يعتقدون أن المجلس العسكري منح الإخوان فرصة عمرهم بخنق القوي الوطنية الأخري بضيق الوقت.. ولا يملكون تفسيرا مريحا لذلك.. بل ولا يتحمسون لتصريحات صدرت عن هم بأنهم" لا إخوان ولا سلفيون".. فقد اعتبروه مرهما لا يكفي لعلاج ما سببوه من حروق.. بسبب خبرتهم المحدودة في إدارة المرحلة الانتقالية.. ورغبتهم في العودة سريعا لثكناتهم.. لاستعادة مسافة الهيبة والرهبة التي حافظوا عليها نحو ستين سنة.. منذ أن حكموا بعد ثورة يوليو 1952.
3
وليس هناك أدني شك لدي الأمريكيين في أن مصر دولة مهمة بالنسبة إليهم.. فما يحدث فيها يؤثر فيمن حولها.. خاصة السعودية التي يخشون أن تنتقل عدوي الثورة إليها.. وإسرائيل التي تعيد حساباتها وتطور تسليحها تحسبا لما يهدد معاهدة السلام معها.. وهي تنشر علي صفحات جرائدها صورا لأسلحتها المذهلة من باب الردع والتخويف.
وفي استراتيجيتهم الدفاعية يعتبر الأمريكيون مصر عمقا مباشرا لأمن الخليج.. وربما كان ذلك سبب توتر بندر بن سلطان من سعي نبيل العربي لترميم الجسور المحترقة مع إيران.. ويمكن القول إن مستشار الأمن القومي السعودي كان وراء تعيين رجل يثق فيه سفيرا لبلاده في القاهرة هو أحمد القطان بجانب عمله مندوبا في الجامعة العربية.
وتشير تقديرات عليا إلي أن وزير خارجيتنا تأثر بتشجيعه لإيران بآراء محمد حسنين هيكل الذي يرتبط بعلاقة نسب معه.. وتري أنه منفذ سياسة خارجية وليس مخترعا لها.. كما أنه أعطي الإيرانيين هدية دون أن يحصل منهم علي شيء.. وكانت التعليمات قد صدرت إليه بأن يكون متحفظا في كلامه عن ليبيا وسوريا.
ولعل تأرجح زيارة عصام شرف للسعودية ــ قبل قيامه بها ــ دليل إضافي علي سخونة الأزمة بين البلدين.. وهي أزمة بدأت باستنكار السعودية لمحاكمة مبارك وحبسه احتياطيا.. ووصلت إلي حد التهديد بعدم تقديم مساعدات لمصر في ظروفها الاقتصادية الحرجة بعد أن أفرطت في الوعود.
فالعقلية القبلية المحافظة هناك استنكرت الإساءة إلي مبارك باعتباره" شيخ البلد".. وشعرت بالاستياء من اتهامه بالخيانة.. ولم تستوعب اتهامه بالفساد.. ولم تقبل بالتحقيق مع زوجته.. واعتبرت ذلك خروجا عن التقاليد.
وكانت مهمة رئيس الحكومة في الرياض"تهدئة النفوس قبل طلب الفلوس".. وتكررت المهمة نفسها في الإمارات.. حيث يرتبط أبناء الشيخ زايد بجمال مبارك في علاقة متينة.. كان آخر مظاهرها حضور" الوريث" سباق آخير للسيارات كان هناك منذ عدة شهور.
علي أن ما فجر الأزمة هو الميل الأخير لطهران التي لا تطيقها أبو ظبي أو دبي بسبب رغبتها في احتواء جيرانها.. والاستحواذ عليهم.
وكشفت الأزمة مع القاهرة عن نفسها بوضع عراقيل أمام المصريين في الحصول علي تأشيرات الدخول أو تجديد أختام الإقامة لهم.. وإن كانت دبي لا تنكر أن ودائعها في البنوك زادت بنسبة لافتة للنظر بسبب تدفقات هائلة من مصريين حمل بعضهم ملايين الدولارات معه وفي المطار أبلغ الجهات المالية المسئولة بما يحمل لتدخل في حساباته بطريقة مقبولة.
وفي الوقت نفسه رفضت مصر استقبال أمير قطر رغم المساعدات المغرية التي عرض تقديمها.
4
وتخشي الولايات المتحدة من تعرض سفنها العابرة لقناة السويس لهجمات إرهابية من تنظيمات سلفية وجهادية عادت للحياة والحركة من جديد بعد الثورة علي غرار ما حدث للمدمرة كول في اليمن.. خاصة أن تفجيرات خط الغاز الموصل إلي إسرائيل كانت عملية افتتاحية لهذه الجماعات دشنت بها إحياء نشاطها.. والخط الآن تحت حماية البدو بتكليف من جهات مسئولة.
وضاعف من المخاوف الأمريكية المظاهرة التي قادها عبود الزمر أمام سفارتهم في القاهرة للمطالبة بالإفراج عن عمر عبدالرحمن المسجون مدي الحياة بتهمة محاولة تفجير برجي التجارة الدولية في نيويورك.. وتدبير محاولة لقتل مبارك في واشنطن عام 1993.
وتضع الولايات المتحدة خطوطا بالقلم الأحمر علي ما يتعرض إليه الأقباط.. وحظيت جريمة قطع الأذن في الصعيد بتقارير مفصلة أرسلت لهيلاري كلينتون شخصيا بناء علي طلبها.. وبدأت في لجان الكونجرس دعوات لفرض الحماية علي ما يسمي بالأقليات الدينية في مصر.. وهي دعوات تنفذ الاستجابة إليها بقوي التدخل العسكري.. ولم يعد ذلك مستبعدا بعد الغارات العسكرية التي شنت علي ليبيا للإطاحة بحكم القذافي.
وترصد هذه التقارير حسب ما كشفت"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" أن السعودية لعبت دورا مباشرا في تقوية السلفيين بالدعم والتمويل.. وتحويل شيوخها غير الدارسين لعلوم الدين في الأزهر إلي نجوم لفضائيات دينية تروج للفكر الوهابي وتحرض علي استخدام العنف في فرض الأخلاق كما يرونها.. علي طريقة الشرطة الدينية السعودية.. المعروفة بجماعة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".. وهي جماعة انكمشت هناك وازدهرت هنا.
وحسب نفس التقارير فإن حكومة" خادم الحرمين" دفعت من ميزانية نشر الدعوة الإسلامية ملياري دولار للسلفيين المصريين الذين يمشون علي خطي مشايخهم.. وينشرون فتاواهم.. ويرتدون ثيابهم.. ويروجون لأفكارهم.. ويمكن أن تدفع خمسة مليارات أخري لمساعدتهم في الانتخابات البرلمانية القادمة.. فهي تعتقد خطأ أنهم أقل خطورة من الإخوان.. وهي نفس نظرية أمن الدولة تحت رئاسة حسن عبد الرحمن الذي تخيل أنهم عصا غليظة في يد النظام لضرب الإخوان.. فإذا بهم أداة ترويع يشجعها الإخوان كي يصدق الناس أنهم معتدلون لا يبغون سوي وجه السلطة.
5
ومن جانبها نجحت السفارة الأمريكية في القاهرة في فتح نقاش مع أفراد يمثلون قوي مختلفة شاركت في الثورة.. لكن.. الإخوان حرصوا علي تجنب الكلام مع دبلوماسييها.. طالبين منهم الصبر إلي ما بعد الحصول علي عضوية مجلس الشعب.. ليكون من حقهم الحوار معهم بصفة رسمية دون شك أو اتهام.
وتعرف الولايات المتحدة ــ منذ وجود مبارك في الحكم ــ أن الإخوان ليسوا جماعة محظورة.. فكيف يمكن تصديق حظرها وسبق أن حصلت علي 88 مقعدا في البرلمان.. وكان يمكن أن يفوزوا بنحو 140 مقعدا؟
وكانت تري أن عار نظام مبارك في تزوير الانتخابات الأخيرة ووجهت بلهجة عنيفة انتقاداتها لنتائجها.
وليس في نية أحد من صناع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للتعامل مع مصر أن يتحمل عداوة الجماعة.. فلو كان المجلس العسكري لم يتحمل هذه العداوة فكيف يتحملونها هم؟
بل أكثر من ذلك سيعترفون بشرعية وجودهم في البرلمان القادم مهما كانت نسبتهم فيه.. لكنهم.. قد لا يتعاملون معهم لو فازوا بالأغلبية التي تمنحهم فرصة وضع الدستور وتشكيل الحكومة.. سيتكرر نفس موقفهم من حماس في غزة.. اعترفوا بها.. لكن.. لم يتعاملوا معها.
وعدم التعامل معها سيصل بالولايات المتحدة كما عرفت إلي حد تجميد المعونة الاقتصادية والعسكرية.. خاصة أن هناك خوفا من إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل أو الضغط لتعديل بنودها.. وهو ما يعني من وجهة نظر البنتاجون إعلان حالة الحرب بين البلدين.
وسبق أن أعلنت وزيرة التعاون الدولي غضبها من استخدام المعونة الاقتصادية ورقة ضغط سياسي علي مصر وأبدت استعدادها للتنازل عنها.. خاصة أنه لم يبق منها سوي الفتات.
أما المعونة العسكرية فيضيع أغلبها في رواتب المستشارين وقطع الغيار التي تبيعها الولايات المتحدة لنا بالقطارة.. وهناك مخزون مالي استراتيجي لمواجهة قطعها.
6
لكن.. ذلك لا ينفي أن هناك تيارات في الخارجية الأمريكية تري أن الإخوان لم يأخذوا فرصة شرعية من قبل.. تعكس وجودهم.. وتهدئ من تعسفهم.. وتؤمن هذه التيارات بأن الجماعة لن تسعي إلي الحكم في هذه المرحلة.. وتعهدوا شفاهة بأن يقصروا نشاطهم علي الدعوة والخدمة الاجتماعية.. وسيكتفوا بتغيير المنكر باللسان لا باليد.. وهو ما زاد من حماس هذه التيارات لهم.. فالمهم بالنسبة إليها هو نبذ العنف.. وعليهم التعهد بذلك.
وسجلت الولايات المتحدة علي نفسها خطأ بعدم اتفاقها مع حماس علي نبذ العنف قبل الانتخابات التشريعية التي انتهت بسيطرتها علي غزة.. وبسبب هذا الخطأ أوقفت الولايات المتحدة مساعي المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية التي كان يديرها عمر سليمان ورجاله.
وكان الإخوان من الذكاء بأن أعطوا الأمان للأمريكيين ــ عبر القطريين ــ مبكرا بأنهم لن يعودوا إلي العنف.. لكن.. ما لاحظة خبراء معاهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن أن الإخوان لم ينفذوا طوال تاريخهم الطويل عهدا قطعوه علي أنفسهم.. كما أنهم قد يكررون تجربة حماس بأن يصلوا إلي السلطة ثم يماطلوا في الدعوة لانتخابات جديدة يعرفون مقدما أنهم سيخسرونها.. فالديمقراطية بالنسبة للإخوان تذكرة ذهاب بلا عودة.. طريق ذو اتجاه واحد.
7
ويشعر الأمريكيون بأن الوقت ليس في صالح التيارات والأحزاب السياسية غير المغطاة بالدين بما في ذلك تجمعات شباب الثورة.. بل يرون أن هذه القوي المؤمنة بالدولة المدنية لا تعرف بعد القواعد التي ستجري عليها اللعبة الانتخابية القادمة.. فحتي الآن لم يصدر قانون مباشرة الحقوق السياسية الذي سيحدد أسلوب الترشيح.. وإن كانت مصادر يمكن الوثوق بها تؤكد أن الترشيح سيكون بالقائمة النسبية بجانب الأسلوب الفردي.
يضاف إلي ذلك أن الأمريكيين يرون أن شباب الثورة ليس لديه وسائل الضغط الكافية علي المجلس العسكري لتأجيل الانتخابات.. كما أن شباب الثورة يضيع الوقت في الانتظار.. فلو كان في بداية الثورة ينتظر خروج مبارك من الحكم.. فما الذي ينتظره الآن؟.. لقد تحققت المسألة السهلة وهي سقوط النظام.. لكن بقيت المسألة الصعبة هي تشكيل النظام البديل.. وهو ما يعني أن قوي الثورة التي كانت تعرف ما لا تريد لا تعرف الآن ما تريد.
ويتعجب الأمريكيون من الإيقاع البطيء الذي تمشي به القوي السياسية غير الدينية رغم أن الوقت المتاح لها لا يزيد علي أربعة شهور منها شهر رمضان الذي تموت فيه الحياة تماما.. بل إنهم أبدوا دهشتهم من إصرار هذه القوي علي القيام بإجازة شم النسيم والتمتع بالتهام الفسيخ والبصل وهي في حاجة إلي كل ساعة بل كل دقيقة.
وأغرب اعتراف من الأمريكيين أن الناصريين يملكون فرصة أكبر للفوز في الانتخابات القادمة.. فلا تزال سياسات وشعارات وصور جمال عبد الناصر تلقي هوي لدي الشارع.
عادل حمودة
5 مليارات دولار من السعودية لتمويل السلفيين في الانتخابات القادمة
- أمريكا تهدد بقطع المعونة العسكرية لو حصل الإخوان علي أغلبية في مجلس الشعب!
- القاهرة ترفض زيارة أمير قطر ولو جاء بمليارات الدولارات وواشنطن ستعترف بالإخوان لو جاءوا للحكم لكنها لن تتعامل معهم كما فعلت مع حماس وتري أن شعارات الناصريين أكبر منافس لهم في الانتخابات!
- الرياض غاضبة من حبس مبارك ومحاكمة عائلته والإمارات تعاقب المصريين علي تصريحات نبيل العربي بمد الجسور المحترقة مع إيران!
ليس من السهل مراقبة جنين يتكون.. أو مياه جوفية تتحرك.. أو ثورة شعبية تتشكل.
من يتصور ذلك يشبه سائق الدراجة الذي يتأمل قدميه.. فيرتبك.. ويفقد توازنه.. ويقع.
إن الثورة حركة بشرية يصعب رصد تفاعلاتها.. أو كشف مكوناتها.. أو توقع مستقبلها.. فهي مجاهيل مغلقة تمتلئ بمعادلات ومعوقات ومخلوقات لا نستطيع تحديد ماهيتها.. وطبيعتها.. وتحركاتها.. وتحولاتها.
لا أحد يمكنه أن يمسك بالبرق.. بل.. كل ما عليه أن يستفيد من الضوء الذي يلمع في الظلام.. ومن تجمع بروق الثورة تحدث الإنارة النفسية الشاملة.. ويبدأ العمل علي أرض واضحة.. ولو بعد طول معاناة.
لكن.. المشكلة أن من يصنع الثورة غير من يراقبها.. ومن نجح في التغيير غير من يرصده.. ومن يسعي للتجديد غير من يخشاه.
1
وصف مبارك موقف الولايات المتحدة منه بالخيانة السافرة.. فقد لحس الرئيس السابق أصابع قدميها.. وعطر سياستها بماء الورد.. لكنها في حساباته.. غدرت به.. وسهلت التخلص منه.
لقد انتصرت التيارات الشابة في إدارة باراك أوباما علي عناد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وتصلب شرايين وزير الدفاع روبرت جيتس.. وساندت الميديا الثورة المصرية.. ووضعت مجلة "تايم" وائل غنيم علي رأس قائمة المائة شخصية الأكثر تأثيرا في العالم.
علي أن واشنطن غير مشغولة الآن بما "حدث".. وإنما بما "سيحدث".. لا يهمها ما "كان".. وإنما ما" سيكون".. فالتاريخ بالنسبة إليها علم الأحداث الميتة.. والمستقبل علم رصف الطرق المفتوحة.
ولكنها.. حتي هذه اللحظة لم ترسُ علي بر.. ولم تستقر علي رأي.. ولم تعرف من هو حصان الرهان المضمون الذي سيصل في السباق الراهن إلي حكم مصر.. وهي لن تنتظر إلي أن يأتي.. وإنما عليها أن تتوقعه.. وتختبره.. وتخترعه إذا ما لزم الأمر.
2
وتزدحم فنادق القاهرة ومطاعمها ومقاهيها الآن بعشرات الصحفيين والدبلوماسيين والباحثين الأمريكيين بجانب عملاء لمخابراتهم المتنوعة.. جاءوا في مهمة عاجلة.. لا تحتمل التأخير.. المساعدة في رسم السياسة التي علي بلادهم اتباعها تجاه مصر بعد الثورة في الشهور القليلة القادمة.. الحاسمة.. ما هي القوي التي يساندونها؟.. وما هي التيارات التي يخشونها؟.. وما هي الجماعات التي يمكن التعامل معها؟
إن هذه السياسة لم تقرر بعد.. فلا يزالون في مرحلة جمع المعلومات.. ورصد الملاحظات.. ووضع التصورات.. لكنهم.. يشعرون أنهم في سباق مع الزمن.. فالانتخابات البرلمانية علي الأبواب.. والفائز فيها سيشكل لجنة وضع الدستور الجديد.. ويحدد المستقبل السياسي للبلاد لوقت بعيد.
وهم يعتقدون أن المجلس العسكري منح الإخوان فرصة عمرهم بخنق القوي الوطنية الأخري بضيق الوقت.. ولا يملكون تفسيرا مريحا لذلك.. بل ولا يتحمسون لتصريحات صدرت عن هم بأنهم" لا إخوان ولا سلفيون".. فقد اعتبروه مرهما لا يكفي لعلاج ما سببوه من حروق.. بسبب خبرتهم المحدودة في إدارة المرحلة الانتقالية.. ورغبتهم في العودة سريعا لثكناتهم.. لاستعادة مسافة الهيبة والرهبة التي حافظوا عليها نحو ستين سنة.. منذ أن حكموا بعد ثورة يوليو 1952.
3
وليس هناك أدني شك لدي الأمريكيين في أن مصر دولة مهمة بالنسبة إليهم.. فما يحدث فيها يؤثر فيمن حولها.. خاصة السعودية التي يخشون أن تنتقل عدوي الثورة إليها.. وإسرائيل التي تعيد حساباتها وتطور تسليحها تحسبا لما يهدد معاهدة السلام معها.. وهي تنشر علي صفحات جرائدها صورا لأسلحتها المذهلة من باب الردع والتخويف.
وفي استراتيجيتهم الدفاعية يعتبر الأمريكيون مصر عمقا مباشرا لأمن الخليج.. وربما كان ذلك سبب توتر بندر بن سلطان من سعي نبيل العربي لترميم الجسور المحترقة مع إيران.. ويمكن القول إن مستشار الأمن القومي السعودي كان وراء تعيين رجل يثق فيه سفيرا لبلاده في القاهرة هو أحمد القطان بجانب عمله مندوبا في الجامعة العربية.
وتشير تقديرات عليا إلي أن وزير خارجيتنا تأثر بتشجيعه لإيران بآراء محمد حسنين هيكل الذي يرتبط بعلاقة نسب معه.. وتري أنه منفذ سياسة خارجية وليس مخترعا لها.. كما أنه أعطي الإيرانيين هدية دون أن يحصل منهم علي شيء.. وكانت التعليمات قد صدرت إليه بأن يكون متحفظا في كلامه عن ليبيا وسوريا.
ولعل تأرجح زيارة عصام شرف للسعودية ــ قبل قيامه بها ــ دليل إضافي علي سخونة الأزمة بين البلدين.. وهي أزمة بدأت باستنكار السعودية لمحاكمة مبارك وحبسه احتياطيا.. ووصلت إلي حد التهديد بعدم تقديم مساعدات لمصر في ظروفها الاقتصادية الحرجة بعد أن أفرطت في الوعود.
فالعقلية القبلية المحافظة هناك استنكرت الإساءة إلي مبارك باعتباره" شيخ البلد".. وشعرت بالاستياء من اتهامه بالخيانة.. ولم تستوعب اتهامه بالفساد.. ولم تقبل بالتحقيق مع زوجته.. واعتبرت ذلك خروجا عن التقاليد.
وكانت مهمة رئيس الحكومة في الرياض"تهدئة النفوس قبل طلب الفلوس".. وتكررت المهمة نفسها في الإمارات.. حيث يرتبط أبناء الشيخ زايد بجمال مبارك في علاقة متينة.. كان آخر مظاهرها حضور" الوريث" سباق آخير للسيارات كان هناك منذ عدة شهور.
علي أن ما فجر الأزمة هو الميل الأخير لطهران التي لا تطيقها أبو ظبي أو دبي بسبب رغبتها في احتواء جيرانها.. والاستحواذ عليهم.
وكشفت الأزمة مع القاهرة عن نفسها بوضع عراقيل أمام المصريين في الحصول علي تأشيرات الدخول أو تجديد أختام الإقامة لهم.. وإن كانت دبي لا تنكر أن ودائعها في البنوك زادت بنسبة لافتة للنظر بسبب تدفقات هائلة من مصريين حمل بعضهم ملايين الدولارات معه وفي المطار أبلغ الجهات المالية المسئولة بما يحمل لتدخل في حساباته بطريقة مقبولة.
وفي الوقت نفسه رفضت مصر استقبال أمير قطر رغم المساعدات المغرية التي عرض تقديمها.
4
وتخشي الولايات المتحدة من تعرض سفنها العابرة لقناة السويس لهجمات إرهابية من تنظيمات سلفية وجهادية عادت للحياة والحركة من جديد بعد الثورة علي غرار ما حدث للمدمرة كول في اليمن.. خاصة أن تفجيرات خط الغاز الموصل إلي إسرائيل كانت عملية افتتاحية لهذه الجماعات دشنت بها إحياء نشاطها.. والخط الآن تحت حماية البدو بتكليف من جهات مسئولة.
وضاعف من المخاوف الأمريكية المظاهرة التي قادها عبود الزمر أمام سفارتهم في القاهرة للمطالبة بالإفراج عن عمر عبدالرحمن المسجون مدي الحياة بتهمة محاولة تفجير برجي التجارة الدولية في نيويورك.. وتدبير محاولة لقتل مبارك في واشنطن عام 1993.
وتضع الولايات المتحدة خطوطا بالقلم الأحمر علي ما يتعرض إليه الأقباط.. وحظيت جريمة قطع الأذن في الصعيد بتقارير مفصلة أرسلت لهيلاري كلينتون شخصيا بناء علي طلبها.. وبدأت في لجان الكونجرس دعوات لفرض الحماية علي ما يسمي بالأقليات الدينية في مصر.. وهي دعوات تنفذ الاستجابة إليها بقوي التدخل العسكري.. ولم يعد ذلك مستبعدا بعد الغارات العسكرية التي شنت علي ليبيا للإطاحة بحكم القذافي.
وترصد هذه التقارير حسب ما كشفت"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" أن السعودية لعبت دورا مباشرا في تقوية السلفيين بالدعم والتمويل.. وتحويل شيوخها غير الدارسين لعلوم الدين في الأزهر إلي نجوم لفضائيات دينية تروج للفكر الوهابي وتحرض علي استخدام العنف في فرض الأخلاق كما يرونها.. علي طريقة الشرطة الدينية السعودية.. المعروفة بجماعة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".. وهي جماعة انكمشت هناك وازدهرت هنا.
وحسب نفس التقارير فإن حكومة" خادم الحرمين" دفعت من ميزانية نشر الدعوة الإسلامية ملياري دولار للسلفيين المصريين الذين يمشون علي خطي مشايخهم.. وينشرون فتاواهم.. ويرتدون ثيابهم.. ويروجون لأفكارهم.. ويمكن أن تدفع خمسة مليارات أخري لمساعدتهم في الانتخابات البرلمانية القادمة.. فهي تعتقد خطأ أنهم أقل خطورة من الإخوان.. وهي نفس نظرية أمن الدولة تحت رئاسة حسن عبد الرحمن الذي تخيل أنهم عصا غليظة في يد النظام لضرب الإخوان.. فإذا بهم أداة ترويع يشجعها الإخوان كي يصدق الناس أنهم معتدلون لا يبغون سوي وجه السلطة.
5
ومن جانبها نجحت السفارة الأمريكية في القاهرة في فتح نقاش مع أفراد يمثلون قوي مختلفة شاركت في الثورة.. لكن.. الإخوان حرصوا علي تجنب الكلام مع دبلوماسييها.. طالبين منهم الصبر إلي ما بعد الحصول علي عضوية مجلس الشعب.. ليكون من حقهم الحوار معهم بصفة رسمية دون شك أو اتهام.
وتعرف الولايات المتحدة ــ منذ وجود مبارك في الحكم ــ أن الإخوان ليسوا جماعة محظورة.. فكيف يمكن تصديق حظرها وسبق أن حصلت علي 88 مقعدا في البرلمان.. وكان يمكن أن يفوزوا بنحو 140 مقعدا؟
وكانت تري أن عار نظام مبارك في تزوير الانتخابات الأخيرة ووجهت بلهجة عنيفة انتقاداتها لنتائجها.
وليس في نية أحد من صناع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للتعامل مع مصر أن يتحمل عداوة الجماعة.. فلو كان المجلس العسكري لم يتحمل هذه العداوة فكيف يتحملونها هم؟
بل أكثر من ذلك سيعترفون بشرعية وجودهم في البرلمان القادم مهما كانت نسبتهم فيه.. لكنهم.. قد لا يتعاملون معهم لو فازوا بالأغلبية التي تمنحهم فرصة وضع الدستور وتشكيل الحكومة.. سيتكرر نفس موقفهم من حماس في غزة.. اعترفوا بها.. لكن.. لم يتعاملوا معها.
وعدم التعامل معها سيصل بالولايات المتحدة كما عرفت إلي حد تجميد المعونة الاقتصادية والعسكرية.. خاصة أن هناك خوفا من إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل أو الضغط لتعديل بنودها.. وهو ما يعني من وجهة نظر البنتاجون إعلان حالة الحرب بين البلدين.
وسبق أن أعلنت وزيرة التعاون الدولي غضبها من استخدام المعونة الاقتصادية ورقة ضغط سياسي علي مصر وأبدت استعدادها للتنازل عنها.. خاصة أنه لم يبق منها سوي الفتات.
أما المعونة العسكرية فيضيع أغلبها في رواتب المستشارين وقطع الغيار التي تبيعها الولايات المتحدة لنا بالقطارة.. وهناك مخزون مالي استراتيجي لمواجهة قطعها.
6
لكن.. ذلك لا ينفي أن هناك تيارات في الخارجية الأمريكية تري أن الإخوان لم يأخذوا فرصة شرعية من قبل.. تعكس وجودهم.. وتهدئ من تعسفهم.. وتؤمن هذه التيارات بأن الجماعة لن تسعي إلي الحكم في هذه المرحلة.. وتعهدوا شفاهة بأن يقصروا نشاطهم علي الدعوة والخدمة الاجتماعية.. وسيكتفوا بتغيير المنكر باللسان لا باليد.. وهو ما زاد من حماس هذه التيارات لهم.. فالمهم بالنسبة إليها هو نبذ العنف.. وعليهم التعهد بذلك.
وسجلت الولايات المتحدة علي نفسها خطأ بعدم اتفاقها مع حماس علي نبذ العنف قبل الانتخابات التشريعية التي انتهت بسيطرتها علي غزة.. وبسبب هذا الخطأ أوقفت الولايات المتحدة مساعي المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية التي كان يديرها عمر سليمان ورجاله.
وكان الإخوان من الذكاء بأن أعطوا الأمان للأمريكيين ــ عبر القطريين ــ مبكرا بأنهم لن يعودوا إلي العنف.. لكن.. ما لاحظة خبراء معاهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن أن الإخوان لم ينفذوا طوال تاريخهم الطويل عهدا قطعوه علي أنفسهم.. كما أنهم قد يكررون تجربة حماس بأن يصلوا إلي السلطة ثم يماطلوا في الدعوة لانتخابات جديدة يعرفون مقدما أنهم سيخسرونها.. فالديمقراطية بالنسبة للإخوان تذكرة ذهاب بلا عودة.. طريق ذو اتجاه واحد.
7
ويشعر الأمريكيون بأن الوقت ليس في صالح التيارات والأحزاب السياسية غير المغطاة بالدين بما في ذلك تجمعات شباب الثورة.. بل يرون أن هذه القوي المؤمنة بالدولة المدنية لا تعرف بعد القواعد التي ستجري عليها اللعبة الانتخابية القادمة.. فحتي الآن لم يصدر قانون مباشرة الحقوق السياسية الذي سيحدد أسلوب الترشيح.. وإن كانت مصادر يمكن الوثوق بها تؤكد أن الترشيح سيكون بالقائمة النسبية بجانب الأسلوب الفردي.
يضاف إلي ذلك أن الأمريكيين يرون أن شباب الثورة ليس لديه وسائل الضغط الكافية علي المجلس العسكري لتأجيل الانتخابات.. كما أن شباب الثورة يضيع الوقت في الانتظار.. فلو كان في بداية الثورة ينتظر خروج مبارك من الحكم.. فما الذي ينتظره الآن؟.. لقد تحققت المسألة السهلة وهي سقوط النظام.. لكن بقيت المسألة الصعبة هي تشكيل النظام البديل.. وهو ما يعني أن قوي الثورة التي كانت تعرف ما لا تريد لا تعرف الآن ما تريد.
ويتعجب الأمريكيون من الإيقاع البطيء الذي تمشي به القوي السياسية غير الدينية رغم أن الوقت المتاح لها لا يزيد علي أربعة شهور منها شهر رمضان الذي تموت فيه الحياة تماما.. بل إنهم أبدوا دهشتهم من إصرار هذه القوي علي القيام بإجازة شم النسيم والتمتع بالتهام الفسيخ والبصل وهي في حاجة إلي كل ساعة بل كل دقيقة.
وأغرب اعتراف من الأمريكيين أن الناصريين يملكون فرصة أكبر للفوز في الانتخابات القادمة.. فلا تزال سياسات وشعارات وصور جمال عبد الناصر تلقي هوي لدي الشارع.
عادل حمودة
0 التعليقات:
إرسال تعليق