منذ سبعينيات القرن الماضي تقريبا، ومع دعم الرئيس الراحل أنور السادات للتيار المتأسلم ودفعه لمركز المشهد السياسي والاجتماعي في مصر لضرب الناصرية، اضطر مسيحيو مصر للانسحاب من المشهد، خصوصا مع تفجر أول حادث فتنة طائفية في عام 1971 وهو الحادث الذي تكرر مرات قليلة نسبيا طوال عهد السادات.
مع تولي الرئيس المخلوع حسني مبارك بدأ عصر جديد في علاقة المسيحيين في مصر
بالدولة. احتفظ مبارك بسياسة تضمن له تحييد ما يقرب من العشرة في المائة من المصريين بدفعهم للاحتماء من المجتمع والدولة معا داخل الكنيسة، حافظ نظام مبارك علي سياسة التعامل مع المسيحيين من خلال الكنيسة، ما حوّل المسيحيين من مواطنين في الدولة إلي مواطني الكنيسة، وفضّل مبارك التعامل مع "شعب الكنيسة" من خلال الكنيسة ما صنع أساس عزلتهم.
المسيحيون لهذا الوضع وجدوا أنفسهم مضطرين للتعامل مع الدولة من خلال كنيستهم التي أصبحت المتحدث الديني والعلماني في الوقت نفسه باسمهم، ما زاد من عمق العزلة التي عاشها معظم المسيحيين من جهة، وما ساعد النظام نفسه من خلال إعلامه وجهاز أمنه علي إشاعة إحساس الارتياب لدي المتشددين من المسلمين تجاه الكنيسة، بترويج أو بالسماح بترويج أن الكنيسة دولة داخل دولة، وأن المسيحيين يستقوون علي الدولة، وأن الكنيسة تمارس أنشطة عصابية من قبيل اختطاف المسلمات وتخزين السلاح وما إلي ذلك مما يردده بعض المتشددين والذي يلقي بعض القبول لدي قاعدة ليست بسيطة في الشارع. ما مهد الأرض لاستيعاب أية أحداث طائفية وإشعال فصولها خصوصا في الأحياء ذات الكثافة السكانية المرتفعة والمستوي الاجتماعي والتعليمي المتدني.
و الكنيسة نفسها فضّلت فيما يبدو الاستجابة لسياسة نظام مبارك للاحتفاظ بسلطتها الروحية والاجتماعية علي شعبها، ما ضاعف من العزلة إلي حد كبير. القليلون الذين تجنبوا مثل هذه العزلة مثل الناشط السياسي جورج إسحق، ورجل الأعمال نجيب ساويرس، وحفنة كبيرة من الفنانين والكتاب والمفكرين، تركوا انطباعا جيدًا في الحياة الاجتماعية في مصر باعتبارهم مواطنين مصريين، وليسوا ضمن شعب الكنيسة، لأنهم احتفظوا بعلاقتهم بالكنيسة كسلطة وجدانية وروحية واحتفظوا بعلاقتهم مع الدولة في إطار المواطنة.
الحقيقة أن مثل هؤلاء أفادوا أبناء ديانتهم أكثر مما أفادهم رجال دينهم، لأنهم ساهموا في إلغاء الشعور بالارتياب الذي ينميه باستمرار التيار المتأسلم. لكل هذا يبدو لي مشهد الاعتصام أمام ماسبيرو بمثابة قرار من بعض المسيحيين للتوقف عن كونهم شعب الكنيسة، الذين يحتمون فيها من الدولة، والانتقال للتعامل مع الدولة في إطار المواطنة، وحتي ولو كان اعتصامهم أمام ماسبيرو لمطالب تخصهم كأشخاص ينتمون لديانة ما، وحتي ولو كانت لمطالب تخص هذه الديانة، أي أنها مطالب تخص ممارستهم لعقيدتهم، فإنهم في النهاية يسعون للمطالبة بها علي أرضية غير دينية، أي علي أرضية أنهم مواطنون مصريون تصادف أنهم يعتنقون المسيحية، ولهم حقوق مشروعة لدي الدولة، من حقهم المطالبة بها بل والإصرار علي تحقيقها. ولهذا فقد وجدوا استجابة كبيرة من النشطاء وغير النشطاء المسلمين الذين شاركوهم اعتصامهم للدفاع عن مطالبهم كمواطنين دولة وليس كمواطني كنيسة.
هؤلاء الذين أطلقوا علي أنفسهم إئتلاف شباب ماسبيرو كسروا حاجز العزلة الذي فرضه عليهم نظام مبارك، وكسروا حاجز العزلة الذي فرضته عليهم الكنيسة، لهذا فإنهم لم يستجيبوا لدعوة البابا لفض الاعتصام، وربطوا فض الاعتصام بتحقيق مطالبهم كمواطنين، ولهم كثير حق. ما يحتاجه مسيحيو مصر الآن كسر حاجز العزلة، والاندماج مع المجتمع سياسيا واجتماعيا، وتفضيل القيام بكافة النشاطات علي تنوعها، فنيا وثقافيا ورياضيا، ضمن المؤسسات المدنية، كالجامعة ومراكز الشباب وقصور الثقافة وغيرها، بدلا من ممارسة كل هذه النشاطات ضمن المؤسسة الدينية. وعلي الكنيسة نفسها أن تدفع بشعبها خارج حدودها، إلا في الإطار الديني الوعظي، إذا ما كانت راغبة في توطين شعبها داخل الدولة، وعلي المسيحيين والكنيسة معا معرفة أن المواطنة ليست منحة سوف تهبها الدولة للمسيحيين، وإنما هي حقوق عليهم اكتسابها، ليس فقط من خلال الاعتصامات ولكن من خلال الاندماج أكثر مع المجتمع، مع وضع مصر في الاعتبار دائما في التعامل مع أية عقبات قد تواجه هذا الاندماج، لأن مصر سوف تظل مقصدنا جميعا مسلمين ومسيحيين.
لهذا فإن قانون دور العبادة الموحد الذي تشرع الدولة في صياغته ومن ثم في تنفيذه لن يكون كافيا أبدا لتحقيق المواطنة وإن أمكن أن يكون كافيا للتحقيق العدالة الدينية بين المؤمنين، لأن المواطنة وإن كانت تتضمن العدالة الاجتماعية فإنها لا يمكن أن تختزل في فكرة العدالة. المواطنة تعني قبل كل شيء توطين الإنسان في وطنه، ليس فحسب بمنحه فرصا متساوية مع شركائه ولكن أيضا بقدرته علي فرض نفسه في الحياة العامة، كمواطن، حتي إذا بادر هو نفسه بتفعيل المواطنة كانت المواطنة نصيبه.
روزاليوسف
0 التعليقات:
إرسال تعليق