لا أعرف لماذا "لم أهضم" عصام شرف رئيس حكومة تصريف الأعمال المصرية، منذ أن رأيته يقف كالتلميذ في حضرة قادة الإخوان، يردِّد الشعارات خلف النائب الإخواني السابق، الذي كاد يستحلفه لولا تدخل عاجل من أحد رجال الجيش ليحول دون تدشين هذا التقليد الذي حاولت الجماعة فرضه في لحظة اختطاف رمزية لثورة جميع المصريين، لا فئة بعينها كما يعترف الإخوان أنفسهم، لكن ثقافة الاختطاف وذهنية التنظيم السري تبقى من أبرز سمات هذا الفصيل الانتهازي الذي لعب مع النظام السابق، وقبله مع الأنظمة الملكية والجمهورية كافة من فوق الطاولة وتحتها ومن دونها أيضًا،
فلم يكتسب من هذه الخبرات السياسية إلا الأسوأ منها، وفي مقدمتها الانتهازية، وازدواجية الخطاب، والمراوغة والاختطاف والالتفاف، والمتاجرة بأحلام البسطاء وبيع الوهم، وترويج الذعر، وإشاعة روح الطائفية ومناخ الانقسام بين أبناء الوطن.. وقل ما شئت واحتكم.. أو "عدّ واغلط".
في أزمات كثيرة داخل مصر وخارجها بدت لي "حكومة التصريف" ومعها المجلس العسكري مثل "متعهد الجنائز" الذي يقدم نوعًا بغيضًا من الخدمات التي لا يستغني عنها أحد، لكن الجميع يدعون الله ألا يحتاجوا إلى خدمات هذا الرجل، الذي يطلق عليه المصريون "الحانوتي" وهي صورة نمطية قدمتها السينما المصرية باعتباره "رمز شؤم"، لكنه أيضًا موضع سخرية وتندُّر وربما "النكت"، التي يولع بها المصريون ويجيدونها حتى في أحلك الظروف.
مثلاً في أزمة محافظ قنا "القبطي" تصرف شرف ومن خلفه الجنرالات بطريقة تدعو للسخرية والأسف معًا، وبنفس طريقة "الحانوتية" جرى تجميد وضعه أو بالأحرى تجميد الأزمة وترحيلها، مع أن المحافظ الذي أقسم اليمين، أبدى استعداده للاستقالة لرفع الحرج عن حكّام مصر المرتبكين، الذين نسبت لبعضهم تصريحات متضاربة على مدار أكثر من أسبوع، وفي النهاية رضخوا لابتزاز الشارع الذي حشدته وعبأته بالطائفية قوى السلفيين الجدد، بالتحالف مع كبيرتهم التي علمتهم السحر، وأقصد بالطبع جماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة سابقًا، و"المحظوظة" حاليًا.
يحدث هذا بينما يتجاهل شرف مطالب بقية التيارات في مصر على تنوع مشاربها، وفي مقدمتها النخبة الفكرية، وغاية ما فعله أنه يستمع للحابل والنابل ويعد الجميع بالحلول، لكنه لم ينفذ وعوده إلا للإخوان وغيرها من تيارات الإسلام السياسي، ناهيك عن تعامله بارتباك واضح مع تواتر الاحتجاجات الفئوية وتفاقمها بشكل متسارع، فيصدر قوانين لكنه لا يستطيع تنفيذها، أو ينفذها بطريقة انتقائية.
وحين نضيف إلى هذا تكرار الاحتقانات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، من خلال سلسلة اعتداءات غاشمة على أرواح وممتلكات الأقباط، في حوادث لم يزل يكتنف بعضها الغموض وتشوبها ملابسات تشبه تلك التي وضعت رموز النظام السابق في خانة "التواطؤ" مع الجناة ما لم يكونوا في خندق الفاعل.
***
في آخر أيام نظام مبارك وفي محاولة يائسة منه للبقاء، نزع عن عورته ورقة التوت الأخيرة من خلال اعترافه بشرعية الإخوان رغم كونها ـ وفقًا لحسابات السياسة ـ جماعة لم تنتقل بعد من خندق التنظيم الحركي، إلى فضاء الحزب السياسي الشريك في اللعبة السياسية بقواعدها المتعارف عليها في التجارب الديمقراطية الراسخة والدول المدنية التي حسمت خياراتها.
غير أنه لم يتم تفعيل هذا "الاعتراف" إلا في عهد حكومة شرف ومن خلفها المجلس العسكري وسيذكر لهم التاريخ تدشين قفز جماعات الإسلام السياسي على زمام الأمور في مصر، وأزيدكم من الشعر بيتًا أنهم سيحصلون على أغلبية كاسحة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وسيشكلون حكومة تضم وجوهًا خبرناها تسبّ أنظمة الحكم المتعاقبة نهارًا، وتنام في أحضانها ليلاً، وتتعاطى مع شؤون السياسة بمنطق الخطب المنبرية أمام البسطاء، ثم تنفِّذ في الخفاء نفس ما كانت تتهم به الأنظمة الشمولية التي رعتها، ولهذا فإنها ستفشل في إدارة أزمات مصر المتراكمة منذ 1952، وحينها ربما تلجأ للتحرش بإسرائيل كي تتجاوز أزمة خيبتها المؤكدة، وتقفز بالبلاد والعباد في أتون المجهول، وهنا يلزم التأكيد على أنني لا أمارس التكهُّن بالغيب، لكنها قراءة للواقع السياسي وملامح المشهد الراهن، وأتمنى أن تخيب ظنوني ولا يحدث هذا، فمصلحة الوطن ومستقبل أبنائنا أهمّ من الانتصار للذات.
ثم يأتي هذا التسامح المريب من "حانوتية مصر" مع لهجة التهديد وطريقة الابتزاز الصريحة التي يستخدمها تيار الإسلام السياسي بتنوُّعاته المختلفة من غلاة بالإخوان مرورًا بالسلفيين الذين صنعهم أمن النظام السابق وخرجوا من الشقوق بعد سقوطه، وصولاً إلى قادة الجماعات الجهادية الذين تلطَّخت أياديهم وتاريخهم بدماء الأبرياء أصبحوا "نجوم المرحلة"، ويتسابق الإعلام التافه المُضلل للترويج لخطابهم عن فرض الجزية على المسيحيين، وإقامة دولة الخلافة و"فتح باب الجهاد"، وغير ذلك من لغو القول.
وكل ما سبق من ارتباك في معالجة قضايا داخلية خطيرة وغيرها مما لا يتسع المقام لسرده تفصيلاً في كفة، وفي الكفة الأخرى موقف مصر في السياسة الخارجية، وتحديدًا تجاه إيران، والذي بدأت بوادره مع ذلك الغموض الذي استمر أيامًا وسط تصريحات متضاربة حيال عبور سفينتين "حربيتين" إيرانيتين لقناة السويس، والذي أفضى في النهاية إلى عبور السفينتين بالفعل، وهو أمر لم تتوقف آثاره عند حدود استنفار إسرائيل وتحريض ساستها للغرب ضد حكّام مصر الجدد الذين أعلنوا احترامهم للمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر، بما فيها اتفاقية السلام.
غير أن الأمر امتد لإثارة القلق لدى دول حليفة في مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها السعودية والإمارات، التي سلمت شرف رسالة له ولمن يقفون خلفه رسميًّا وسريًّا، مفادها أن السياسة باختصار هي "لعبة مصالح"، وأنهم ليسوا معنيين بمصير مبارك كما يُشاع، فهذا شأن داخلي، لكن على القاهرة أن تُفاضل بين مصالحها مع دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة، بما في ذلك العمالة المصرية في هذه الدول واستثماراتها في مصر، وتلك المصالح المتوهَّمة التي يُبشّر بها البعض مع إيران، وأن يختاروا موقفًا صريحًا لا لبس فيه فالمواجهة آتية لا ريب فيها وغاية ما في الأمر أنها "مسألة وقت"، وأن التطمينات الإعلامية ليست كافية، لكنهم يتوقعون موقفًا حاسمًا.
وبالتالي فإنه لم يعد مقبولاً من دولة في وزن مصر الاكتفاء بدور "الحانوتي" في مواجهة إقليمية ستكتب تاريخ المنطقة وترسم ملامح مستقبلها، لأن المطلوب حاليًا هو دور "الجرّاح"، فهل ترى معي أن اللاعبين على المسرح السياسي وكواليسه سينحازون لمصالح مصر الحقيقية، أم سيرضخون لابتزاز ومزايدات "باعة الشعارات" ممن يسعون لتوريط البلاد والعباد في مغامرات عسكرية، لم نكن في غنى عنها كما نحن الآن؟!
ملحوظة أخيرة
من المعلوم بالضرورة أن المجلس العسكري يلعب الآن دورًا سياسيًّا في مصر، وأعضاؤه ليسوا مجرد قادة محترفين فحسب، وبالتالي فإن توجيه النقد إلى سياساته أمر مشروع، ولا يعني أبدًا المساس بالمؤسسة العسكرية، التي هي موضع احترام الكافة، لأنها باختصار كالنيل والأهرامات، "حقّ مشاع" لجميع المصريين لا يقبل المزايدة
فلم يكتسب من هذه الخبرات السياسية إلا الأسوأ منها، وفي مقدمتها الانتهازية، وازدواجية الخطاب، والمراوغة والاختطاف والالتفاف، والمتاجرة بأحلام البسطاء وبيع الوهم، وترويج الذعر، وإشاعة روح الطائفية ومناخ الانقسام بين أبناء الوطن.. وقل ما شئت واحتكم.. أو "عدّ واغلط".
في أزمات كثيرة داخل مصر وخارجها بدت لي "حكومة التصريف" ومعها المجلس العسكري مثل "متعهد الجنائز" الذي يقدم نوعًا بغيضًا من الخدمات التي لا يستغني عنها أحد، لكن الجميع يدعون الله ألا يحتاجوا إلى خدمات هذا الرجل، الذي يطلق عليه المصريون "الحانوتي" وهي صورة نمطية قدمتها السينما المصرية باعتباره "رمز شؤم"، لكنه أيضًا موضع سخرية وتندُّر وربما "النكت"، التي يولع بها المصريون ويجيدونها حتى في أحلك الظروف.
مثلاً في أزمة محافظ قنا "القبطي" تصرف شرف ومن خلفه الجنرالات بطريقة تدعو للسخرية والأسف معًا، وبنفس طريقة "الحانوتية" جرى تجميد وضعه أو بالأحرى تجميد الأزمة وترحيلها، مع أن المحافظ الذي أقسم اليمين، أبدى استعداده للاستقالة لرفع الحرج عن حكّام مصر المرتبكين، الذين نسبت لبعضهم تصريحات متضاربة على مدار أكثر من أسبوع، وفي النهاية رضخوا لابتزاز الشارع الذي حشدته وعبأته بالطائفية قوى السلفيين الجدد، بالتحالف مع كبيرتهم التي علمتهم السحر، وأقصد بالطبع جماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة سابقًا، و"المحظوظة" حاليًا.
يحدث هذا بينما يتجاهل شرف مطالب بقية التيارات في مصر على تنوع مشاربها، وفي مقدمتها النخبة الفكرية، وغاية ما فعله أنه يستمع للحابل والنابل ويعد الجميع بالحلول، لكنه لم ينفذ وعوده إلا للإخوان وغيرها من تيارات الإسلام السياسي، ناهيك عن تعامله بارتباك واضح مع تواتر الاحتجاجات الفئوية وتفاقمها بشكل متسارع، فيصدر قوانين لكنه لا يستطيع تنفيذها، أو ينفذها بطريقة انتقائية.
وحين نضيف إلى هذا تكرار الاحتقانات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، من خلال سلسلة اعتداءات غاشمة على أرواح وممتلكات الأقباط، في حوادث لم يزل يكتنف بعضها الغموض وتشوبها ملابسات تشبه تلك التي وضعت رموز النظام السابق في خانة "التواطؤ" مع الجناة ما لم يكونوا في خندق الفاعل.
***
في آخر أيام نظام مبارك وفي محاولة يائسة منه للبقاء، نزع عن عورته ورقة التوت الأخيرة من خلال اعترافه بشرعية الإخوان رغم كونها ـ وفقًا لحسابات السياسة ـ جماعة لم تنتقل بعد من خندق التنظيم الحركي، إلى فضاء الحزب السياسي الشريك في اللعبة السياسية بقواعدها المتعارف عليها في التجارب الديمقراطية الراسخة والدول المدنية التي حسمت خياراتها.
غير أنه لم يتم تفعيل هذا "الاعتراف" إلا في عهد حكومة شرف ومن خلفها المجلس العسكري وسيذكر لهم التاريخ تدشين قفز جماعات الإسلام السياسي على زمام الأمور في مصر، وأزيدكم من الشعر بيتًا أنهم سيحصلون على أغلبية كاسحة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وسيشكلون حكومة تضم وجوهًا خبرناها تسبّ أنظمة الحكم المتعاقبة نهارًا، وتنام في أحضانها ليلاً، وتتعاطى مع شؤون السياسة بمنطق الخطب المنبرية أمام البسطاء، ثم تنفِّذ في الخفاء نفس ما كانت تتهم به الأنظمة الشمولية التي رعتها، ولهذا فإنها ستفشل في إدارة أزمات مصر المتراكمة منذ 1952، وحينها ربما تلجأ للتحرش بإسرائيل كي تتجاوز أزمة خيبتها المؤكدة، وتقفز بالبلاد والعباد في أتون المجهول، وهنا يلزم التأكيد على أنني لا أمارس التكهُّن بالغيب، لكنها قراءة للواقع السياسي وملامح المشهد الراهن، وأتمنى أن تخيب ظنوني ولا يحدث هذا، فمصلحة الوطن ومستقبل أبنائنا أهمّ من الانتصار للذات.
ثم يأتي هذا التسامح المريب من "حانوتية مصر" مع لهجة التهديد وطريقة الابتزاز الصريحة التي يستخدمها تيار الإسلام السياسي بتنوُّعاته المختلفة من غلاة بالإخوان مرورًا بالسلفيين الذين صنعهم أمن النظام السابق وخرجوا من الشقوق بعد سقوطه، وصولاً إلى قادة الجماعات الجهادية الذين تلطَّخت أياديهم وتاريخهم بدماء الأبرياء أصبحوا "نجوم المرحلة"، ويتسابق الإعلام التافه المُضلل للترويج لخطابهم عن فرض الجزية على المسيحيين، وإقامة دولة الخلافة و"فتح باب الجهاد"، وغير ذلك من لغو القول.
وكل ما سبق من ارتباك في معالجة قضايا داخلية خطيرة وغيرها مما لا يتسع المقام لسرده تفصيلاً في كفة، وفي الكفة الأخرى موقف مصر في السياسة الخارجية، وتحديدًا تجاه إيران، والذي بدأت بوادره مع ذلك الغموض الذي استمر أيامًا وسط تصريحات متضاربة حيال عبور سفينتين "حربيتين" إيرانيتين لقناة السويس، والذي أفضى في النهاية إلى عبور السفينتين بالفعل، وهو أمر لم تتوقف آثاره عند حدود استنفار إسرائيل وتحريض ساستها للغرب ضد حكّام مصر الجدد الذين أعلنوا احترامهم للمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر، بما فيها اتفاقية السلام.
غير أن الأمر امتد لإثارة القلق لدى دول حليفة في مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها السعودية والإمارات، التي سلمت شرف رسالة له ولمن يقفون خلفه رسميًّا وسريًّا، مفادها أن السياسة باختصار هي "لعبة مصالح"، وأنهم ليسوا معنيين بمصير مبارك كما يُشاع، فهذا شأن داخلي، لكن على القاهرة أن تُفاضل بين مصالحها مع دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة، بما في ذلك العمالة المصرية في هذه الدول واستثماراتها في مصر، وتلك المصالح المتوهَّمة التي يُبشّر بها البعض مع إيران، وأن يختاروا موقفًا صريحًا لا لبس فيه فالمواجهة آتية لا ريب فيها وغاية ما في الأمر أنها "مسألة وقت"، وأن التطمينات الإعلامية ليست كافية، لكنهم يتوقعون موقفًا حاسمًا.
وبالتالي فإنه لم يعد مقبولاً من دولة في وزن مصر الاكتفاء بدور "الحانوتي" في مواجهة إقليمية ستكتب تاريخ المنطقة وترسم ملامح مستقبلها، لأن المطلوب حاليًا هو دور "الجرّاح"، فهل ترى معي أن اللاعبين على المسرح السياسي وكواليسه سينحازون لمصالح مصر الحقيقية، أم سيرضخون لابتزاز ومزايدات "باعة الشعارات" ممن يسعون لتوريط البلاد والعباد في مغامرات عسكرية، لم نكن في غنى عنها كما نحن الآن؟!
ملحوظة أخيرة
من المعلوم بالضرورة أن المجلس العسكري يلعب الآن دورًا سياسيًّا في مصر، وأعضاؤه ليسوا مجرد قادة محترفين فحسب، وبالتالي فإن توجيه النقد إلى سياساته أمر مشروع، ولا يعني أبدًا المساس بالمؤسسة العسكرية، التي هي موضع احترام الكافة، لأنها باختصار كالنيل والأهرامات، "حقّ مشاع" لجميع المصريين لا يقبل المزايدة
0 التعليقات:
إرسال تعليق